دراسـة
الأستاذ الدكتـور
(يســري العــزب)
أستاذ الأدب العربي
بكلية الآداب
جامعة بنها
إنصات لـ:(وشوشة البحر)
ما أروع البحر حين يختار من يهمس له من البشر؟ هل سمعتم شيئًا من ذلك الهمس الجميل؟
أما أنا فقد سمعت منه الكثير والكثير.. اسألوني.. لماذا؟ وحتى لو لم تسألوني فإنني سأجيب بالأصالة عن نفسي.. أنا مالك البحر وصاحب (ميلاد البحر) كانت على أذني أو بكائياته، وفي قلب استقر – للأبد – حبه – وفي كل شعري ستظل وشوشاته..
هكذا تقول الشاعرة إيمان يوسف في ديوانها الجديد، الذي إن كان الرابع في رحلتها الإبداعية فسيكون – في الوقت نفسه – نقطة انطلاقها إلى ىفاق أرحب ومساحات أوسع مدى من البحر،
وأشد عمقًا من المحيط..
هذا ما يستشرفه الناقد من قصائدها أو وشوشاتها التي تتعانق بين دفتي هذا الديوان.
(ملامح الفجر) يبدو هذا الاستشراق بارقًا بقوة:
كتبتك فوق سطور عمري ملامح فجر ومديت لي شعاع دافي بيطوي لي صعاب البحر ما بين الشمس وغروبها غزلتك جوه تكويني بتهديني وتحميني وترضيني تحوّطني، تعليني تخليني كما النجمات |
هي من البداية ترهص – لأنها تحس بقوة بوقوفها على أباب مرحلة فنية جديدة، تتسلح فيها رؤيتها الشاعرة بأسلحة جديدة، أهم ما فيها الاتجاه بقوة إلى التغيير، الذي يبدأ بمعاتبة الزمان/ القدر في لغة أنثوية شديدة الشجن:
زمانا ليه ما بيجمعش أحبابه وفارش دنيا م الصبّار على بابه |
يبدأ التغيير القوي بالعتاب، ثم يرقى بالقرب هكذا نرى في (رسالة إلى الكمبيوتر):
لكن لما أقرّب لك أحس الدنيا في أديا تنشطني مع الشاشة مع الألوان مزهيّة عشقتك وقت ما أبدأ مع التركيز بتبدأني تحفزني وتؤجدني |
والقرب خطوة إلى العشق الذي به – لا قبله – يبدأ التغيير وينطلق المستقبل جديد وهو الذي يجب أن يكلل دائمًا بالحب.. فإن اختفى، أو قل، أو بعد.. عادت الحياة عدمًا:
مش قادرة أعيش وقت الغضب بأفقد حياه، بافقد نجاه، بافقد أنوثتي في خبايا المنكسر بأكون ضباب بأكون ورق .... من غير سطور بأكون حمام فاقد جناحه والسما.. |
ويتم الحب الصانع للحياة، وللأنوثة، وللوجود الخصب إذا كان الانتماء دافعًا إليه، وهو ما نراه في نجوى الشاعرة للقاهرة الرمز الحي للوطن الحبيب:
يا شوارع، يا حواري، يا حكايات الزمن، لسّه فاكرة.. يا عيون.. يا شفايف، قلبي عمره ما يبقى خايف لما تبقى محوّطاني.. ضمي شوقي ما بين أيديكي |
وإذا اكتملت دائرة (الانتماء) حب الوطن، كان ذلك بداية لاكتمال كل دوائر الحب، وأهمها (دائرة الاحتواء) الذي يتحقق حين يرى المرء كل حريته في اختياره للوطن الذي يعطيه كل شيء:
وتحجبني عن العالم أنا راضية وحجمني على قدك أنا موافقة تعلمني أعيش عهدك أكون زيك، ومين زيك؟ أكون قدك ومين قدك؟ أنا موافقة بإن اللحظة توجدني وتاخدني وتولدني هنا في قلبك وأبدأ خطوة من جنبك |
بالاحتواء تعلن الشاعرة انتماءها للموروث الأسطوري الذي بدأ منه خلود الإنسان تعود الأنثى المعاصرة، ابنة البحر، الإسكندرية، مصر باختيارها الحكيم إلى حيث بدأ الخلق والتكوين، تصبح البنت الجديدة حوالي الأولى حين تتحول – الآن باختيارها إلى وحدة صغيرة ستولد من ضلع آدمها الأب والأم معًا.. منتهى التوحد بالأسطورة، والتوحد بالحرية، وبقرار امتلاك الإرادة، وبالإصرار على أن تبدأ الحياة من جديد، أكثر إنسانية وجمالاً.
ويستمر عزف الشاعرة الرقيق بوشوشة البحر دافعًا للتقدم، رافضًا التراجع، أو التوقف:
مع إني طويت صفحات العشق إنما مش عارفة لإيه باشتد إليك؟ وعيونك بتنادي عيوني عايزة تكشف جواها حاجات أو نوبة إلهام لحظة سحرية تتحس وأنا باشتد إليك وبأحاول أصطاد الحرف |
وتتمكن الشاعرة برؤيتها الجديدة القادرة من امتلاك الواقع، والسيطرة عليه، وكشف سوءاته، في (واقعية فنية) تبعدها درجات عن (رومانسيتها) التي سيطرت على دواوينها السابقة.
الزمن بيفر ليه من بين أيدينا؟ والجنون في القلب شاعر قد إيه معنى الفزع؟ قد إيه العمر موجوع م الزمن والحقيقة كلنا في حاجة ماسة لكف عافي يضمنا |
وهو بالتأكيد لن يكون سوى (كف الحقيقة) فليس في الواقع كله أقوى منه، وامتلاك هذه القبضة الواقعية القوية (كف الحقيقة) هو الذي سيطلق (الفجر) من قيده:
في الساقية مربوط الفجر في عيون الهجر أسراب الطير في أتواب الأسر والصمت الساجد للغربة أوراق منثورة في برودة أطراف تشتاق اللمس تسكن في حارات القلب المليان إحساس ولكنه مربوط في الساقية |
صورة شعرية مكثفة بقوة، منسوجة من خيوط حرير متين، ملونة بدرجات وطاقات لونية شديدة الرهافة والحدة، تلك السطور الشعرية السابقة وهي كل قصيدة (إحساس فاقد النطق) تملك كل القدرة على البوح، لأنها من ذلك الشعر الصافي الذي ينطق بكل الدلالات حتى أعمقها، والعمق الدلالي هنا يتحرك بنا في حركة جماعية موحدة إلى (الحرية) الكاملة، الانطلاق الكامل:
استناني حارمي المرمر من صفحة عمري وآجي لك سلّك خطواتي داوي شرخ الوجدان من غربة ليلي اللي بتخنق كل نجومه خفف جرح ضلوعي وعلاجي وجودك يا معودني على الحنية بتنسني كاسات الهم أستناني |
هنا نرصد نفس الدرجة من التكثيف اللغوي الدال التي رصدناها في القصيدة السابقة وإن كانت الشاعرة لم تركز على أضواء الصورة الشعرية بنفس القوة التي احتوت بها صورة (إحساس فاقد النطق) وهو ما تعوضه الشاعرة – بعد ذلك – في قصائد أخرى أهمها قصيدة (وريد البحر):
وبأشوفك على سطح المية وفي حبة رمل في أيديا أحلامنا في الخيمة الزرقا بص لها في سحابة وتايهة تلقاني هلالك بيدلك بلغات الطير اللي تقول لك مكنونة في مشاعري سنابل ممدودة لوريد البحر.. |
بدأ الديوان هامسة (وشوشة) ومضى هادرًا كحركة البحر القوي الجميل وانتهى وشوشة تمتد في مشاعر القراء، كل القراء سنابلها.
لتمتلئ خصوبة وعطاء
أعرفتم من يكون البحر؟!
أما أنا فقد عرفته.. إنه أنتم أيها القراء.. الأحباب فأنتم البحر/ الوطن، وفيكم يمتد الوريد بالحياة/ الشعر.
أ. د/ يسري العزب
................