أنيس قلبى
ديوان شعرى ثرى بالموسيقى والموضوعات
دراسة بقلم الأستاذ : أحمد فضل شبلول
>
>
"أنيس قلبى" الديوان الشعرى لشاعرة العامية غزيرة الإنتاج إيمان أحمد يوسف ، وقد أهدته إلى خالها "حسن أنيس" وهو إهداء نادر الحدوث ، فأغلب الشعراء والأدباء يهدون أعمالهم إلى زوجاتهم أو أبنائهم ، أو والديهم (الأم أو الأب) أما أن يكون الإهداء إلى الخال ، فهو أمر يشى بقوة العلاقة التى تربط الشاعرة بالخال (وكما يقولون فالخال والد) وهى تأخذ هذا القول ، وتوظفه فى قصيدتها "أنيس قلبى وأنيس روحى" فتقول :
أنيس قلبى
دا خالى وابويا
وحمايتى
باشوفه شمسى
وبدايتى
ليس هذا فحسب ، ولكن يلاحظ أن عنوان الديوان مشتق من اسم الخال ، فالخال اسمه حسن أنيس ، وعنوان الديوان "أنيس قلبى"
***
وتأتى قصيدة "حبيبى" وهى من أقوى قصائد الديوان فنياً
وإنسانياً ـ لتعبر عن تلك العلاقة القوية بين الشاعرة وخالها الذى هو الدنيا كلها فى نظرها ... تقول الشاعرة فى مطلع القصيدة بالغة الدلالة على تلك العلاقة :
لو جالك موتك
إوعى تقابله
ولا تسمح له
يسحب عودك
من فوق أرضك
قول له بان فى ناس فى حياتى
عايشه بروحى
وسط غنايا ... بكايا ... جروحى
ناس يتنام على همس لقايا
تحلم ويا الصبح معايا
نفس خيالى
حالهم حالى
ناس بقلوبهم تنطق خالى
يعنى أبويا وامى وجدى
يعنى الوطن اللى بيسندنى
كل الدنيا ف واحد أدى
عمره بيدى
إيد بتمد الخير للكل
احتوى الديوان بعد الإهداء على سبع وسبعين قصيدة من شعر العامية المصرية ، ووقع فى 118 صفحة ، وتتضح بجلاء مشاعر القوة والكبرياء وأحوال التحدى والعند والصبر على المكاره والمصائب والأزمات التى قد تمر بها الشاعرة فى مسيرة حياتها ، الأمر الذى يولد لديها تركيبه أخرى من مشاعر الانتماء والاحترام والالتزام والكرامة ... تقول فى قصيدة "فراسة" على سبيل المثال :
راح ادافع عن بقائى
بعقلى مش بكائى
وتقول فى نهاية قصيدة "ممستغرباك" :
وانا فلبى شاعر
بينسى الأسية
ولكن كرامتى
دى هى القضية
والشاعرة فى وصيتها لابنتها توصيها بالقوة والصلابة والجرأة ، أى يوصيها بأن تكون على شاكلتها فى القوة والكبرياء فالمثل العامى يقول (اقلب القدرة على فمها تطلع البنت لامها) فهى فى هذه القصيدة "وصية" لا توصى ابنتها بأن تهتم بفساتينها وتسريحتها وشئونها النسائية الصغيرة ، ولكن تحاول الشاعرة أن تزرع فى قلب الإبنة الأمور المعنوية والفكرية التى تسهم فى بناء الشخصية السوية ... فتقول الشاعرة فى هذه القصيدة المتميزة :
قومى اصلبى عودك
وأكيد حا تسترجعى
القوة من تانى
ما تحرقيش دمك
على الفاضى والمليان
عيدى صياغة نفسك
وأمنى للأمان
قومى اصلبى عودك
وادعى للرحمان
لذا نحس أننا أمام شاعرة مفكرة ، قبل أن تكون متأملة ، وواقعية قبل أن تكون رومانسية ، على الرغم من أنها تحلق كثيراً حول ذاتها ، وتتخذ أحياناً من هذه الذات موضوعاً لها تقول فى قصيدة "العذراء" على سبيل المثال :
أنا برج العذراء
وحداشر سبتمبر
تكوينى
صرخة انفرطت
بتعلن اسمى
ف قلب الدنيا
بترسم ويا طريقى حياه
صوتى بيفرد
كلمة آه
(إيمان)ـ
نجمة على صدر الزمان
لؤلؤة فى حضن المكان
ولأن الشاعرة تعيش مشاعر الانتماء والاحترام والالتزام ، فإنها تنظر إلى الطرف الآخر بنفس المشاعر ، سواء كان هذا الطرف هو الخال الذى أهدته ديوانها ، أو الحبيب أو الزوج أو الإبن أو الوطن ... تقول فى قصيدة "بحبك يا مصرى" :
واحب اهتمامك
بعلمك وفكرك
طموحك وإسمك
واحب التزامك
وإخلاص كلامك
واحب ف مشاعرك
كرامها واصولها
واحب احترامك
لعقلى وفكرى
با حبك يامصرى
وتقول فى قصيدة "جوه منا" :
سيرتك حبيبة
وطبيبة وقريبة
وعجيبة
أنا باعانى من غموض الانقباض
والاعتراض
والافتراض
أما الوداد
خارج حدود كل البلاد
جوه ساعات
الاتهام
والالتحام
والالتزام
ولا أى لون
غير السواد
أو الحياد
أما الجواد
دا حلم فارس
كان يمكن أن تكون هذه القوافى المتتالية أو الإيقاعات المتوالية مقبولة شكلاً ، لو كانت الشاعرة تكتب فى أحد الأطر التراثسة مثل الموشح أو الدوبيت ، وما إلى ذلك ، ولكنها تكتب فى الشكل التفعيلى ، لذا شاع هذا الإحساس بالتكلف
والصنعة الزائدة عن الحد .
أما عندما تتحكم الشاعرة فى موسيقاها وإيقاعاتها ويتمثل فى مطلع قصيدة "ورق شجر" الذى تقول فيه :
قابلت ف طريقى
ورق شجر
كلمته .. كلمنى
غنيت له
علمنى
اصبر
واستنى المطر
أعزف أغانى مخضرة
وانسى الخطر
فالتقفية بين (كلمنى ـ علمنى) وبين (المطر ـ الخطر) تعطى إحساساً بسيطرة الشاعرة سيطرة واعية على موسيقاها وقوافيها ، وأنها هى التى تقود سفينة القصيدة ، وليس الإيقاع هو الذى يقود السفينة .
****
غسر أن هذا الثراء الموسيقى واللعب بالقوافى على امتداد معظم قصائد الديوان ، سواء كان يحسب للشاعرة أو يحسب عليها ، يدل دلالة أكيدة على امتلاء الشاعرة بالموسيقى الشعرية التى يحاول البعض القفز عليها ، أو إلغاءها بحجة التطوير والتحديث ، فظهر فى الآفاق ما يسمى بقصيدة النثر العامية ، فى محاولة لتقليد ما يسمى بقصيدة النثر فى شعر الفصحى ... وإذا كان أصحاب قصيدة النثر فى شعرالفصحى يناضلون من أجل إثبات شرعية هذا اللون الذى أختلف معهم حول تسميته ، فإن أصحاب قصيدة النثر العامية لايمتلكون أى شرعية للونهم هذا ، لأن الوجدان الشعبى ممتلىء بالموسيقى سواء فى الأزجال أو الأمثال العامية ، أو الأغانى الشعبية ، أو ما يسمى باإفيه ، وغيره من ألوان الأدب الشعبى العامر بالموسيقى .
وشاعرتنا إيمان أحمد يوسف ابنة شرعية لهذا التراث الشعبى بموسيقاه وقوافيه وزخم إيقلعلته ، وهى تحاول أن تطور منه وتجدد فيه من داخله وليس بالقفز عليه .
وتلجأ الشاعرة فى بعض الأحيان إلى القصة الشعرية الدرامية ، وتنجح فى نسج خيوطها من مراقبة الذات أو النفس والواقع المحيط بها ، ورسم الصورة الشعرية الجديدة والمبتكرة ومثال على ذلك قصة "على الكرسى الوحدانى" والتى قدمت فيها الشاعرة العديد من الصور الشعرية الجميلة مثل :
بيشبكوا أمانيهم
ضحكاتهم وغناهم
وأيضاً :
وانا غرقانه بين
هزات عواصف دمعتى
وتتضح مشاعر القوة والتحدى التى سبق أن أشرنا إليها فى قصيدة مثل قصيدة "يا معلمنى الحزن" تقول الشاعرة فى مطلع هذه القصيدة :
يا معلمنى الحزن
حدي لك
فرصة تدوقه
مهما كان لك
صعب ومر
حاربط على قلبك
طوقه
إلى أن تقول :
يا معلمنى الحزن
اتعلمت أعافر عمر
واغامر مر
واحتمل الأمر
وأكبر أكبر م الهم
وهنا تلاحظ وجود التقفية المستريحة التلقائية التى تجىء طواعية بين ألفاظ مثل (تدوقه ـ طوقه) أو بين (عمر ـ أمر) .
ومشاعر القوة والتحدى والتمرد تقود حتماً إلى البحث عن عالم الخلاص أو عالم الحرية ، والحرية هى المطلب الأساسى لأى فنان أو شاعر يعشق الحياة ، ويبحث عن الخالود ، وهل هناك فنان أو شاعر لا يعشق الحياة ، أو لا يحب الخلود ؟ فمنذ أن خلق الله الإنسان ومنحه حرية الاختيار ، والبحث عن هذه الحرية والخلود لاينتهى ، تقول الشاعرة فى قصيدتها "بحق غرورك" :
فيه عندك
إيه يرضينى
أو عندك
إيه يكفينى
حكاياتك اليومية
ما عادت أبداً تروينى
با عشق ضل الحرية
وتقول فى قصيدة "يا قمر النيل" :
يا شمس تشق سواد النيه
كونى ف حلق المؤمن حرية
كونى عيون الزمن الثاير على زيف البشرية
وتقول فى قصيدة "رحيق" :
يا طير الشعر
يا كون الحرية
يا إبداع الحب
وفصيلة البشرية
وتلجأ الشاعرة أحياناً إلى كتابة الأغنية التى أرى فى كلماتها معانى وأفكاراً جديدة ، مثل أغنية "يا شنطتى" أو أغنية "متفرفط" أو "عذابك مزاج" التى تقول فى مطلعها :
لما انت مش حاببنى
دايماً علطول سايبنى
أعاتب وتعاتبنى
طب ليه عايزنى جنبك
تكيدنى وتضايقنى
أنا والله مش ملاك
ولأمتى حا دادى روحى
تتحمل فى رضالك
وبا عتبار الشاعرة سكندرية فإنها كثيراً ما تلجأ فى مفرداتها وقاموسها اللغوى الثرى إلى ألفاظ البيئة السكندرية البحرية ، غير أنها تفرد العديد من قصائدها للتغنى والحديث إلى وعن الاسكندرية زمثال على ذلك قصيدة "اسكندرية صبية" التى تقول فى مطلعها :
يا ام الملايه اللف تتمشى على الكورنيش
خلخال بنغمه يزف
فستانك
أبو كورنيش
غير أننا نلاحظ أن الاسكندرية التى تتحدث عنها الشاعرة ليست الاسكندرية فى نهاية القرن العشرين ، وأوائل القرن الحادى والعشرين ، ولكن اسكندرية إيمان يوسف فى هذه القصيدة تنتمى إلى الأربعينيات والخمسينيات وربما إلى منتصف السبعينيات ، وأعتقد أن بعد هذه العقود لم ير أحد منا الملاية اللف أو الخلخال على أجساد بنات الاسكندرية .. وأعتقد أن الشاعرة نفسها ـ ياعتبارها من بنات الاسكندرية ـ لم تلبس فى يوم ما الملاية اللف ... وربما تكون الصورة النمطية القديمة المطبوعة فى الأذهان عن الاسكندرية وبناتها من خلال الحياة فى تلك العقود أو من خلال بعض أزجال بيرم التونسى وغيره من الزجالين ، أو من خلال لوحات الفنان محمود سعيد مثل بنات بحرى وغيرها ، أو الأفلام القديمة التى تصور حياة الصيادين فى منطقة الأنفوشى وبحرى ، أو فيلم مثل السمان والخريف ... إلخ ، ربما يكون هذا هو الذى ترك الانطباع لدى الشاعرة ولدى كل من يكتب عن الاسكندرية بأن يصف المينة ببناتها اللابسات الملاية اللف والمتحلين بالخلخال ، مع أن هذه الصفات لم تكن من نصيب الاسكندرية وحدها ، فنساء القاهرة على سبيل المثال خلال تلك الفترة الزمنية المشار إليها كن يلبسن الملاية اللف ، ولنأخذ مثلاً حميدة بطلة رواية وفيلم "زقاق المدق" لنجيب محفوظ .
أقول هذا لنتخلص ـ وتتخلص معنا الشاعرة إيمان يوسف ـ من تلك الصورة النمطية لمدينة الاسكندرية التى وإن كانت أسهمت فى رسم معالم المدينة خلال عقود مضت إلا أنها لا تصلح فى رسم صورة الاسكندرية الآن ، وعلى الشاعر أن يكون ابن عصره ، ونحن فى انتظار أن ترسم لنا الشاعرة إيمان يويسف إحساسها ورؤيتها للاسكندرية التى تلبس الآن الجينز فى مقابل الملاية اللف ، والحذاء ذا الكعب العالى بدقاته المنتظمة مقابل رنين الخلخال ، حتى وإن رفضت فى رؤيتها الجينز والكعب العالى الذى ربما يوحى بالتغريب أو العولة أو سيادة النمط الغربى على أذواقنا وعاداتنا وتقاليدنا المصرية أو الشرقية .
وفى قصيدة "اسكندرية صبية" لم توفق الشاعرة فى صورتها ـ وهى صورة جميلة فى حد ذاتها ـ التى تقول فيها :
وغزاله بتولع
فى النسمة والشراغيش
ولنا أن نتصور كيف أن الغزالة ـ باعتبارها الشمس أو اسم من أسماء الشمس ـ بتولع النسمة ، أى أن الجو يكون شديد الحرارة ، ولم تصبح النسمة نسمة فى هذا الجو المشمس الخانق ، وهو مالم تقصده الشاعرة على الإطلاق ، ولكن التعبير خانها ، اللهم إلا إذا كان هناك مفهوم آخر لديها للفظ الغزالة .
وبالديوان مجموعة من القصائد الطريفة التى تدل على مهارة الشاعرة فى اصطياد اللحظة ، والبال الرايق الذى ينعكس على اختيار الألفاظ المثيرة للغرابة والدهشة ، وأحياناً الضحك ، مثل قصيدة "طاولة" وقصيدة "نعناع" وقصيدة "طربوش" التى تقول فيها :
بشبوش مهبوش
بشبشنى بشابيشه
كان عايز
ألون له ف ريشه
وملالى الكون
من فشافيشه
فشفت عظامه
وخرابشه ... إلخ
إن ديوان "أنيس قلبى" للشاعرة إيمان أحمد يوسف يحمل الكثير من القضايا الأدبية والفنية ، فهو ديوان غنى بالشعر ، غنى بالقصائد ، غنى بالموضوعات أو الأغراض الشعرية المتنوعة ما بين الذاتى والاجتماعى والإنسانى والوطنى والفنى والتهويمات والموضوعات الطريفة .
ولقد تنوع إنتاج الشاعرة إيمان يوسف بصفة عامة فى شعر العامية وكتبت للأطفال ، وحصلت على العديد من شهادات التقدير ، وتشارك بقوة فى الحياة الأدبية والثقافية فى الأسكندرية بخاصة ومصر بعامة ... وطموحها الأدبى لا يقف عند حد ، وأعتقد أنها لو ولجت عالم المسرح الشعرى بالعامية المصرية لحققت الكثير من طموحاتها ، وطموحاتنا أيضاً .
أحمد فضل شبلول
نُشرت فى مجلة الثغر (مجلة الثقافة السكندرية) العدد الخامس شتاء 2001 صفحات 24 : 30