دراسـة
الأستاذ الدكتـور
(زيــن الخويســكي)
رئيس قسم اللغة العربية
بكلية التربية
جامعة الإسكندرية
.........................
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه هي الخطوة الرابعة لإيمان يوسف.. ليس على طريق الشعر، وإنما على طريق الشعرية. فقد تعرفنا إلى إيمان أول مرة حينما اشتركت بقصائدها في ديوان "عرائس الشعر" عام 1992 وتعرفت هي على عالم الشعر الذي استقبلها بحفاوة بالغة وترحاب شديد، ثم كانت خطوتها الثانية مع ديوان "مشاعر" عام 994م، أعقبتها الخطوة الثالثة في ديوان "تنهيدة صبية" عام 1995.
وهي اليوم خطوتها الرابعة تحاول أن تصل إلى صياغة شعرية خاصة بها، تحاول أن ترسم أسلوبها وطريقة أدائها المميزة التي تصلها بقرائها.... وهي بالجملة تحاول في النهاية أن تخلق شكلها الفني.
وتتميز إيمان بعطائها الشعري الدافئ الذي تغمره الوجدانات الحنونة التي تترك في نفوسنا صدى ساحرًا خلابًا..
تتميز بقدرتها على التعبير عن نفسها بوضوح وجرأة ووداعة تجعلك "ضحية لرقة مشاعرها وسحر شعرها" على حد تعبيرها (ق بيقولوا عني).
تتميز إيمان بصدق إحساسها، وبانتمائها إلى موضوعها وقدرتها على مواجهة واقعها كل هذه الخصائص المميزة لشعر إيمان يوسف تظهر بوضوح في أعمالها السابقة، وتبدو أكثر نضجًا وأبعد عمقًا في ديوانها الرابع "وشوشة البحر".
فالديوان في مجمله عن المرأة "الإنسانة – العاشقة – الأم – الوطن" والمرأة في علاقتها بالرجل، وفي أمومتها، وفي إحساسها بذاتها، وفي رغبتها المتمردة الثائرة على جمود الواقع – هذه المرأة هي محور ديوان إيمان يوسف الرئيسي الذي تدور في فلكه غالبية القصائد والحب هو المكون الرئيسي لشخصية الشاعرة.
ولعل هذا هو السبب وراء شيوع تلك اللغة العاطفية الحانية في قصائدها، حتى وهي تتناول موضوعات بعيدة عن هذا المحور على المستوى المضموني كما في قصائد "رسالة إلى الكمبيوتر"، و"يا قاهرة"، و"بيكاسو"، و"سقراط وغيرها – نجدها لا تتنازل عن مفردات الحب الدافئة التي تغمر هذه القصائد كما تغمر غيرها.
وإذا نظرنا إلى المرأة في ديوان "وشوشة البحر" تجذبنا بداية المرأة العاشقة في علاقتها بالرجل، تلك العلاقة التي تجسد صراعًا أبديًا تختلف أشكاله وألوانه دون أن يتغير أصله أو تتبدل طبيعته وهنا صورة تعبر تعبيرًا صادقًا عن إحساس المرأة تجاه الرجل الذي تحبه وتشعر باحتياجها الدائم والملح إليه، فهي دونه – كما في (ق وحشتني) تفقد أهم ما يميزها وتصبح كالحمام حين يفقد أجنحته، ولا تملك إلا أن تقول في نهاية القصيدة
وفي بعادك يأقول يا مين
يقرب خطـوتي منــك
وهي في قصيدة (عود لأرضي) تعبر عن حاجتها إلى الحبيب الذي يمثل لها الظل والاتزان بل والوجود نفسه حتى أن عودته إليها تمثل عودة الحياة بالنسبة لها، فالحبيب هو الذي يداوي شرخ الوجدان، ويداري الشوك عنها، ويخفف جراحها، وعلاجها لا يكون إلا في وجوده إلى جوارها فهو كما تقول عنه في قصيدة (استناني)
يا معودني على الحنية
بتنسينـي كاسات الهم
وعلى الرغم من كبريائها وحيائها إلا أنها تصل إلى قمة التعبير عن احتياجها للحبيب في قصيدة "يا ريتك تقرب) حين تطلب منه أن يساعدها على الحياة، وأن يعيش بداخلها فهي محتاجة إليه لأنه ملهم مشاعرها وحياتها وشعرها.
وحتى حينما تطلب منه أن يسافر فهي لا تطلب ذلك إلا ليشتاق قلبه إليها ويراسلها شاكيًا أشواقه حتى تطلب منه أن يسافر فهي لا تطلب ذلك إلا ليشتاق قلبه إليها شاكيًا أشواقه حتى تعرف أهميتها في حياته (ق سافر).
إنها في حالة احتياج دائم للرجل، لأنه بالنسبة لها يلعب دور الهادي والحامي والمرضي (ق ملامح فجر) وهو الذي يخلق ساعات حلمها بستانًا (ق غير حالي).
من هنا كان من الطبيعي أن تعلن المرأة في شعر إيمان يوسف إيمانها المطلق بالرجل وقناعتها المطلقة بفكره وقدراته، ورضاها بأن تكون مجرد ظلالاً له فتقول:
وتحجبني عن العالم أنا راضية وحجمني على قدك أنا موافقة تعلمني أعيش عهدك أنا موافقة أكون أو لا أكون منك |
وتأبى إيمان يوسف إلا أن تكون معبرة عن المرأة في جميع أحوالها وطقوسها وتقلباتها في علاقتها بالرجل والتي تظهر لنا في قصيدة (يا قمر) بتركيزها الصارم وعنوانها الساخر ورفضها للتبعية المطلقة إذا لم تكن كامرأة تمثل وجودًا خاصًا في حياة الرجل.
وإيمان يوسف في هذه القصيدة تحاول أن تؤكد على عنصر رئيسي في شخصية المرأة التي تمنح بلا حدود وتتنازل حتى عن حرياتها وعن وجودها وأن تفنى في وجود حبيبها إذا شعرت بمكانتها في قلبه وإذا آمنت بحبه لها، وهي ترفض ما عدا ذلك كما تقول: (ق يا قمر)
أرفض لزوم المنظرة وأكون ديكور لحضرتك أو من لزوم البروزة وبفعلك أنت مبروزة أرفض أكون مفعول به لأني فاعل له حقوق |
وهي تقف الموقف نفسه من زوايا مختلفة في قصيدتها (رسالة إلى ضميرك) و(احتمالي له حدود).
وإيمان يوسف تعبر في جرأة شديدة عن موقف المرأة المتمردة الساعية وراء تغيير الواقع والراغبة في الانفلات والتخلص من القيود التي ترسف حريتها في أغلافها فتقول: (ق التاريخ في فنجان):
بختك في فنجان قهوتك مدي أيديكي طوحي كل اللي فات واتعري من لحظة سكات أدي قرارك بالحياة |
وهي تعلن عن هذه الرغبة بشكل أكثر صراحة ووضوح في قصيدة (حبيبتي الحرية) وترفض روتين الحياة التقليدي الذي تشعر وكأنها محاصرة داخله.
محتاجة أتخلى عن بروازي وشكلي التقليدي ومراياتي وألواني في لبسي وحجات بعملها يوماتي وجمل ديما تتكرر |
وهي ترفع راية العصيان والتمرد في وجه من يحاول أن يسلبها حريتها التي لا تقل أهمية بالنسبة لها عن الشمس – حين تقول في قصيدة (شمس):
لازم أصرخ آه وأتمرد أبعد وأخرج أروح وأتجرد من سياساتي قبل ما أفقد زهر حياتي |
وهي في قصيدة (الغلاف) تؤكد موقفها الرافض وتعلله بعدم قدرتها على الإتلاف مع عناصر الحياة من حولها فتقول:
ليه يا قلبي بترتجف رافض تملي تأتلف ويا الحاجات |
وعلة أخرى في رأيي ترجع إليها رغبة إيمان يوسف في الانفلات والتمرد، وهو إحساسها الخاص بذاتها، والذي تشتم عبقه الساحر في كثير من قصائد هذا الديوان:
فهي تقول في قصيدة (بيقولوا عني):
بيقولوا عني مسابقة سني إحساسي صادق من غير تجني وأي قارئ بيكون ضحية رقة مشاعري وسحر شعري |
وهي تعطي هذا الإحساس مذاقًا أنثويًا حين تقول، نغمة ممزوجة بدل أنثوي مثير في قصيدتها (خلخال):
في محيط التكوين أنا ليا بصماتي ولأني من طين فلذلك مزاجية منسوجة تترقرق بشفايف دفيانة ونعومة طبيعية |
أما الوجه الأخير للمرأة في ديوان (وشوشة البحر) هو وجه المرأة الأم: والوطن والحضن الدافئ الحنون، كما في قصيدة (افتكرني) تلك القصيدة التي أرادت الشاعرة أن تؤكد فيها على معنى الأمومة عن طريق إهدائها إلى صغيرتها (لاحظ أنها القصيدة الوحيدة المهداة في الديوان).
وفي قصيدة (يا جدتي) تعبر إيمان تعبيرًا صادقًا عن الجدة الأم، والدور الذي تلعبه في حياتنا، وما تقدمه لنا من حنان وحكمة، وقد استطاعت إيمان أن ترسم صورة الجدة رسمًا طبيعيًا إلى حد بعيد حتى أنني لم أستطع أن أقاوم رغبة جارفة دفعتني إلى تتبع أوجه الشبه البعيد بين جدتي أنا والجدة التي قدمتها إيمان في شعرها، فالجدة بالنسبة لنا كما تقول إيمان بتجميعنا كلنا:
وتعلمينا بلم شملك نرتوي أنتي الحكيمة المؤمنة متمكنة لما تقولي وتوعدي ومصاحبة لشهور السنة بابه وبؤونة وتوت وطوبة وحافظة كل الأزمنة |
أما وسائل الأداء الشعري في ديوان (وشوشة البحر) فإن أول ما يلفتنا منها هو الصورة التي استمدت الشاعرة عناصرها من عال الحب الذي يسيطر على ديوانها فنجد صورًا من مثل:
(الريش بتبوس أعمالك) والحرف بيطاطي ويبوس التعبير، ونجد حنان الحب في قولها في قصيدة (الصدر الحاني):
الشمس بتحضن طرف الليل في لقاها وبتاخده ينام جوه دفاها |
وهي مغرمة بتقديم صورة النشوة والسعادة كما في قصيدة (عازف).
فنان يعزف على الوتر الولهان ألحان يتمدد في جناحات الفجر على الشجر السكران في موسيقى الحب |
والصورة في شعر إيمان يوسف تلعب دورًا هامًا في تأكيد الإحساس بالبهجة والمساعدة كما في قصيدة (زغاريد الضي):
وييجي الضي يتمخطر في دبلة وتاج وطوق من الورق يبارك عمر جاي يفرح ويتلاقى في قلب وقلب |
كما أننا نلحظ أن إيمان تعتمد كثيرًا على التعبيرات التصويرية وخاصة في عناوين القصائد مثل صفحات العشق، ترمح في سطور العمر، حضن الكف، وزغاريد الضي، وملح الخوف ياما، ودواليب مليانة سهر وغيرها.
وإذا أردنا أن نتحدث عن الموسيقى في ديوان "وشوشة البحر" فإنه ينبغي علينا أن نقف طويلاً أمام الإيقاع الموسيقي والأداء السلس في قصائد من مثل: لحظة رضاه، يا قمر، هارموني، شوق المعاني، زراير، وريد البحر..
ذلك الإيقاع النغمي الرشيق الذي يجعلنا نغرق ف يعالم من الموسيقى الشعرية رفيعة المستوى توظفها الشاعرة بوعي اقتدار.
كما تعتمد الشاعرة أيضًا إلى الموسيقى اللفظية كما نجد في قصيدة (رابعة)، حين تقول:
وخداني الدايرة وأنا مش دارية |
وهي تعزف أيضًا على وتر التناغم الصوتي بين الالتزام والاحترام، وأرفض وما أرفضتني في قصيدة (يا قمر) وبين خيالاتي وحالاتي في قصيدة (إقنعني) وقولها في قصيدة (سكون الليل):
نتآنس ونتجالس وأهمس له ويهمس لي |
وكذلك بين بصاتي ولمحاتي، في قصيدة (خلخال) وغيرها كثير كما استطاعت إيمان يوسف أن توظف إمكانيات الروي كحرف موسيقي بالغ التأثير في نفسية المتلقي (وخاصة المستمع) وكعنصر من عناصر الجذب تجاه القصيدة. ولقد كانت إيمان ناجحة إلى حد بعيد في الاستفادة من طاقات الرؤى التعبيرية في كثير من قصائد الديوان وخاصة قصيدة (الشموع):
لفت عقارب الساعات على خطوط الانتظار مصلوبة على وسط الزمن عصفورة مكسورة الجناح عايشة في تيار الرياح ويشدها نور الصباح ما بين سهاد وبين نواح تعاني من سهر الجراح طالبة السماح |
أما آخر وسائل الأداء الفني في الديوان وهي اللغة فبإمكاننا القول بأن لغة إيمان يوسف في هذا الديوان كانت انسيابية وعذبة وحيوية، مفعمة بالدفء والحنان والمشاعر الإنسانية التي حاولت الشاعرة أن تكرسها عبر قصائد ديوانها.
كما استطاعت إيمان أن تقدم لنا الكثير من التعبيرات الموحية والمؤثرة أيضًا، من مثل: الصمت الساجد، والصمت بيحضن في زوايا الأوضة ويتكسر الحلم القزاز؟!
وغير ذلك كثير.
ولقد كانت الشاعرة واعية في استخدام التناسب اللغوي في قصيدة (ملامح فجر) حين تقول:
وتبدر في السلام لهفة يغرد فينا طير الحب |
فهي تقدم فعل "البدر" ثم تتبعه بالمناسب له وهو "الطير" الذي يلقط اللهفة المبدورة وكأنها حبة الذي يعيش عليه، ولنا أن نلحظ تكرار الموقف نفسه في قصيدة (صفحات العشق) وتكرار مادة البدر فيه رمز للعطاء تقصد إليه الشاعرة قصدًا.
تبقى لنا أن نتحدث عن عدة ملاحظ توقفنا أمامها في قراءة هذا الديوان:
الملحظ الأول: هو البناء الفني للقصيدة في ديوان "وشوشة البحر" واقترابها من طريقة أداء الشعر العامي الأصيل والذي نستشعر فيه روح أولاد البلد أساليبهم في التعبير والتصوير ولغتهم التي يغلب عليها طابع اللوع المصري الأصيل.
ويتبدى لنا ذلك بوضوح شديد في قصائد من مثل:
ملامح فجر – الهروب إلى – يا قمر – بيقولوا عني – خلخال – زراير – موج الزمن.
والملحظ الثاني: هو التركيز الشديد الذي لجأت إليه الشاعرة في بعض القصائد، وهو أمر يستلزم قدرة خاصة من الشاعر في السيطرة على قصيدته، وامتلاكها ومعرفة أبادها ووضوح رؤيتها كاملة في ذهنه قبل الشروع في كتابتها.
والتركيز هو السمة الغالبة على قصائد:
بالإرادة – والشموع – على الغلاف – حضن الكف – زغاريد الضي – إحساس فاقد النط.
ولقد لعب التركيز دورًا فينا واضحًا خاصة في قصيدة (اعذريني) فهي تغالب ضعفها في القصيدة تجاه الحبيب ومن ثم لجأت للتركيز على عكس أسلوبها في القصائد التي عرضت فيها لعلامات مشابهة، وذلك لأنها أرادت أن تنتصر على لحظة ضعف عارمة تجاه الحبيب.
والملحظ الثالث: هي أن إيمان يوسف تقدم في كثير من قصائدها أفكارًا متقاربة ولوحات متشابهة ولكنها في كل قصيدة تضيف ملمحًا تلون به القصيدة وذلك لأنها في سيل إغراق المتلقي في إحساسها الخاص تعتمد على أسلوب التتابع التراكمي في الإحساس الذي تقدمه لنا من خلال قصيدتها في ثوب معين ثم تجري على هذا الثوب تعديلات إضافية في قصيدة جديدة وتمثل كل قصيدة لقطة من إحساس إيمان تجمع مع لقطة أخرى وثالثة ورابعة لتقدم لنا صورة واضحة لهذا الإحساس.
أما الملحظ الرابع: فهي أن إيمان قدمت في ديوانها "وشوشة البحر" أدوار متعددة للمرأة وبعبارة أخرى نستطيع أن نقول إن إيمان يوسف قدمت كثيرًا من النماذج النسوية وحاولت أن تعبر عن إحساس كل نموذج ومشاعره تعبيرًا صادقًا وأظنها قد نجحت في ذلك إلى حد بعيد، فقد نجحت في إقناعنا بالعاشقة الخاضعة لحبيبها، وبالعاشقة الرافضة لتسلط الحبيب، وبالأم، والجدة، وبالمرأة المتمردة، وبالأنثى التي يملؤها الإحساس بالذات.
ولعلنا نكون قد استطعنا أن نلقي الضوء على بعض الجوانب الفنية التي يحفل بها ديوان "وشوشة البحر" وأن نكون قد استطعنا أن نكشف عن سمات الإبداع الفني لدى واحدة من شواعر العامية المصرية المتميزة.
أ. د. زين الخويسكي